تناول جو خوري مواضيع عدة في مونودراما ممزوجة بنفس “ستاند آب كوميدي”، ليخاطب جمهور جلس لأكثر من ساعة في صالةٍ حميمة.
جو خوري جميل، نشيط، حركته أنيقة ويتقن تحريك “تيستوستيرون”، عنوان مسرحية مبني على لعبة علاجية مُمسرحة، أفرغ من خلالها أغلبية هواجسه. صرخ جو خوري أمام جمهور أحبه، ثم رقص، غنى، ضحك، أضحكنا وأوجعنا.
بنى خوري نصه على أفكار نمطية متداولة مؤخراً في مجتمعات عدة، مواضيع شائكة تتماشى مع الموضة السائدة، بانياً نصه على أفكار كمحرمات المجتمع والأهل، الوحدة، الذكورية، النزوح، المحرمات الاجتماعية… نجح بإدخالنا إلى عالمه الخاص من خلال تعليق عدم الاقتناع suspension of disbelief، فغصنا في خصوصياته التي أخذت حجماً أكبر من مسرح \، صالة المونو الصغرى، حيث كنا نتمعَّن بحركات يديه وتعابير وجهه، ثم نتوه بأفكار هذا الإنسان “لمختلف” الذي لا يطمح لتغيير المجتمع، بل أن يكون مقبولاً في بلد لطالما نهشته أحكام بالية مبنية على عدم تقبل الآخر.
الاختلاف ليس تخلّفاً، الاختلاف ليس خلافاً، بل هو تكوين سيكولوجي أو جيني، لا يجب أن يحاكَم عليه، كما لا يمكن أن يفرض معاييره كقيم، خصوصاً أن الاختلاف بات موضة استعملها السياسيون، منذ الزهار التلمودي حتى يومنا، وأساؤوا ليس فقط لمنطق العائلة، بل لحقوق هؤلاء الاجتماعية بشكل خاص.
يمكن للمشاهد ألا يوافق أو يتعاطف مع أفكار جو خوري، لكن لا يمكن ألا يستمع إليه وبأن يفكر معه. فما كان أعمق من العرض المهضوم والتمثيل المتقن، هي أبعاد النص ودهاليز الكلمات المحفورة والتي تهدف لتحريك شيء ما عند الجمهور..
كان أسهل وأوقح وأعنف أن يصرخ مباشرةً: “أنا مختلف، تقبّلوني”، لكن نصه كان أذكى من أن يشحذ عطف المشاهدين، في بلد بات الاختلاف الجنسي سلعة بين يدي بعض نائبات الصدفة وسياسيي العلاقات العامة، الذين يتباهون أمام الكاميرات أنهم حاملو راية الانفتاح، بالوقت الذي يحققون به مصالحهم الخاصة. في هذا الزمن الذي قسم العالم، بين المتحوّلين والمتزمّتين، تشرذمت العائلات والمعتقدات، وبات جو وأمثاله تائهين داخل شقق صغيرة في شوارع كانت خطوط تماس، خرقها الرصاص، لتصبح خطوط تماس مزّقتها المعتقدات.
وتيرة الأداء سريعة والكليشيهات متلاصقة ومتراكمة، خصوصاً المشاهد الأولية، حتى أننا شعرنا في بعض الأحيان أننا نشاهد مقاطع مصوّرة على تيك توك أو على وسائل التواصل الاجتماعي.
على الرغم من ذلك، تعاطى جو خوري مع جمهوره بلباقة، أثار مواضيع عدة، وباتت علاقته بكل الشخصيات الإيحائية ركيزة العرض، هذه الشخصيات الموجودة والغائبة في آن واحد. رمي جو خوري بين الفطام وصورة الأم المهيمنة، الأم التي تخنق ولدها من كثرة محبتها، وإن كانت بعيدة بالجسد. عقد النقص والذنب والثقة بالنفس، باتت بمثابة حمم بركانية أنزلنا إليها هذا الممثل الذي لم يمثل، هذا الممثل الذي عاش قصته وسردها أمامنا.
أصوات المسرحية كناية عن أصوات في جمجمة هذا الشاب. أصوات الجارة التي تمارس الجنس من وراء الحائط، صوت السيدة جانيت من السماء، صوت الأم المؤنِّب للضمير، وصوت هيفا الذي فتح باب الحرية، باب التماهي وحلم النجومية والفرح. هيفا وهبي، “أيقونة” النساء في العالم العربي لفترة عقدين، باتت ملاذ الممثل جو خوري ومثله الأعلى..
السينوغرافيا مبنية على هذه الأصوات والمؤثرات المتضاربة: موسيقى، رصاص، أغاني، أصوات الأهل والجيران… كل هذه العوامل السمعية بنت عالماً أخذ العرض إلى بعدٍ آخر، خصوصاً بعد الحلقة الصوتية التي أدخلت مع موسيقى التكنو..
الإكسسوارات المبعثرة والمتناثرة كلوحات مارك شاغال، تدل على شرذمة عالم جو خوري الداخلي، الذي سُلخ عن بيئة حضنته، أحبها وكرهها في آنٍ واحد. ابن مغدوشة، مغدوشة النقية، مغدوشة الجميلة، مغدوشة على تخوم الكامب، مغدوشة السيدة العذراء، رمز الأمومة والاستيعاب، رمز الطهارة التي فقدها هذا “النازح” داخل بلده الأم، ليرى نفسه غريباً في هذا العالم، في شقة بيروتية مهترئة، حيث بات التخت تابوتاً من خشب، يموت عليه الممثل كل مساء ليستيقظ من مثواه ويةقن بأنه يحلم، ليموت مجدداً، ثم يحلم من جديد.
نشهد مؤخراً تكاثر الشباب و”السياح” الذين يستأجرون في مناطق عين الرمانة (كما هو حال الكاتب)، فرن الشباك والجعيتاوي، وأكثريتهم من مشجعي فكر الـ woke واليسار الأميركي، المبني على لا شيء. الجدير بالذكر أن لهذه المناطق خصوصية وتاريخاً، فرغم النضالات والحروب، استوعبت جيلاً جديداً بذهنية مختلفة.
ما بين سيدة مغدوشة وسيدة لورد عين الرمانة، قصص حب ومحبة، قصص تماس وحروب ولقاءات، لا يجب التزمّت بها أو نكرانها، فلولا عين الرمانة ومغدوشة، لما بقي جو ولا خوري، ولا بقيت أي حرية لأي شاب أو صبية.
بين السلوكيات المقبولة والتصرفات المسموحة، لم نعد نعرف اليوم من هو المستهدف. هل المختلفون هم الضحية؟ هل النظام الجديد في العالم يستعمل ضعف هؤلاء ليفرض ديكتاتورية جديدة؟ هل أصبح “الاختلاف” محكمة تفتيش ضد الآباء والأمهات والعائلات؟
ننتظر الأعمال المقبلة لهذا الفنان الذي لا تنقصه سوى خبرة السنوات. لن يبقى جو خوري وحيداً في غرفته، بل معه آلاف الشباب والشابات، عالقين أيضاً في علب على تخوم التماس، باحثين عن ملاذ أخير… في الغناء والرقص والمسرح، في مدن الفقر والفحشاء، التي فبركتها الرأسمالية المتوحشة.